صور من حياة الفتاة المصرية 2010



أحلام "بنت الثانوي" في وداع الـ31




كتبت: هبة زكريا

نعم.. هذه آخر ليالي عامي الـ31

كيف
قضيت في هذه الحياة 31 عاماً؟.. لا أدري.. كل ما أذكره هو فتاة في السادسة
عشر من عمرها تقف بانتظار الفجر في شرفة منزلهم الكائن بإحدى الحارات..
تتسلق عيناها الجدران المواجهة للشرفة بحثاً عن وجه السماء، حتى تصل إلى
المساحة الضيقة التي قد بدت منه، لكنها ملأت الفراغ حولها حتى بدت كأنها
الكون.. وهناك راحت تناجي أول الأحلام..


نعم
كان حلمي الأول الذي ظللت أطارده 16عاماً من عمري هو أن ألتحق بكلية الطب
البشري؛ لأصبح أشهر جراحة مخ وأعصاب، وأرتدي النقاب، وتنشر أبحاثي في
الدوريات العلمية الأجنبية، وأثبت للعالم كله عظمة الدين الذي "أحمله"..
وأنظم قوافل طبية غير مختلطة، تضم أطباء من جميع التخصصات.. تجوب القرى
والعشوائيات لتعالج الفقراء.. ووووو.. آه نسيت أخبركم أن الحلم بداخلي
يتمدد ويصبح ثلاثي الأبعاد، فما إن يولد حتى يكبر وينمو ويصبح بناءً
متكاملاً.


أول حلم



نعود
لليلة الموعودة وأنا بانتظار خيوط الشمس التي تعلق حلمي بأهدابها، فما إن
تفتح عيناها بالإشراق حتى تظهر نتيجة الثانوية العامة.. وكالعادة ذهب أبي
وأمي للمدرسة وتركوني بانتظار النتيجة في المنزل، وعادا بعد سويعات والبشر
والزغاريد تسبقهما، فلقد حصلت على 92% تقريباً.. ولكن الفرح لم يدم، فما
لبث التنسيق أن جاء وأخذت كلية الطب من 93.5%.


لم
أيأس وأصررت على مطاردة حلمي لأبعد مدى، فدخلت كلية العلوم أملاً في
التحويل لكلية الطب، لكنني وجدتها شائعة، فكرهت الكلية ولم أذاكر، وقررت
إعادة الثانوية العامة، وفعلت في العام نفسه، وامتحنت في مواد العامين "2
و3 ثانوي" في تيرم واحد ذاكرت فيه، وبفضل الله نجحت، وحصلت على 95.75%..
خلاص بقى أكيد هادخل طب..


وبدأت
أعيش في الدور.. ورغم طبيعتي الاجتماعية رحت أعامل الناس بهدوء ورصانة
الأطباء.. لكن التنسيق لعنه الله مرة أخرى خذلني، وطب أخذ من 96%.. وكانت
ليلة ظلماء. روت فيها دموع أمي وسادتها وكذلك أنا، بينما عرض عليّ أبي
بإلحاح أن يبيع كل ما يملك ويلحقني بجامعة خاصة، ولكنني رفضت.. كيف أتعب من
أجل حلمي ثم أستوي بمن يشتريه بالمال وهو لا يستحقه؟!.. وعند هذه النقطة
ودعت حلم الطب.. لكن مرارة حزني لازالت تراودني بين حين وآخر مهما حققت من
نجاح في مهنتي.. مرارة أول حلم أودعه في حياتي.


بوابة الأحلام



وبينما
أستخير.. وجدتني أختار الالتحاق بكلية الإعلام، فكل أساتذتي كانوا يرونني
صحفية.. وقلت في نفسي "إذا كنت أريد أن أخدم ديني كطبيبة، وأرفع رايته على
جبين العالم، فلم لا أفعل هذا وأنا صحفية، وقد قال المصطفى صلى الله عليه
وسلم "إن أكبر الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر".


ورغم
اختياري إعلام عن قناعة تامة فإن حدادي على حلمي الفقيد جعلني أدخلها
والحزن يكللني، أرفض أن أشتري ملابس جديدة، أو أستقبل العام بسعادة، بينما
كل زملائي في الكلية تتقافز الفرحة من أعينهم وهم يدخلون من الباب الزجاجي
يتهادون في خيلاء على الرخام الأسود، وفي إحدى كليات القمة الفريدة
بالجامعات المصرية.


وظل
الحزن ملازما لي إلى أن أتت "ف.ع" بخمارها الوردي الجميل يحيط بوجهها
الباسم البريء، تجوب مدرجي بالفرقة الأولى في لهفة حائرة، تبحث عيناها عن
شيء ما، وما كادت تقعا عليّ حتى بدا البشر فيهما، وأقبلت تتعرف بي وتعرفني
بنفسها، وأنها طالبة في الفرقة الثالثة في قسم الصحافة، ثم توالت زيارتها
لي بين كل محاضرة وأخرى، وراحت تمدني بالملازم والكتب.


كانت (ف) أول خطوة نحو بوابة الأحلام التي لازلت أطاردها.. حتى آخر العمر، فقد عرفتني على الدعوة التي لازلت أشرف بالانتماء إليها.

أما
الخطوة الثانية: فكانت "ج" شقيقة القلب ورفيقة الدرب.. كانت هي الأخرى
حائرة.. تبحث عن نفسها بعد أن دخلت كلية الإعلام بدلاً من دار العلوم
نزولاً على رغبة والديها؛ لأنهم ضنوا بمجموعها الكبير.. وعندما تلاقت
عينانا علمت كل منا أن الأخرى ستكون رفيقتها.


صدمة الحياة



أما
نقطة الانطلاق، فكانت محاضرة للأستاذ الراحل د.خليل صابات، وهو أستاذ
مسيحي محترم وقدير في مادته، لكنه كان طاعناً في السن، فكان يرافقه أحد
المعيدين.. وفي هذه المحاضرة كان الدكتور يتحدث عن العلمانية.. فلم أتمالك
نفسي من مناقشته، وكان رده "لا اعتراض على إيمانك"، ولكن المعيد آنذاك
هاجمني بحدة، وناقشته أيضاً.


لم
أدر هل أفلحت في إدارة النقاش أم لا، ولكن رد فعل زملائي حتى غير
المتدينين منهم، هو ما أطلق مارد الأحلام من قمقم قلبي مرة أخرى، فلقد
أيدوا موقفي بشدة، وأخبرتني إحداهن أنني عبرت عما كانت تريد بالضبط.. وقتها
وصلت الرسالة.. وأيقنت أن الله قد اختار لي هذا الطريق، فانطلقت فيه بكل
طاقة الحلم التي تحركني، ترافقني على الطريق شقيقة القلب ورفيقة الدرب "ج".


درسنا
معاً، وكنا نعود للمنزل لنسهر على الهاتف بالساعات معاً، نحلم وندرس
أحلامنا ونمنطقها، ونحلق بها إلى عنان السماء، سبقتها إلى العمل والتدريب؛
حيث بدأت من الفرقة الأولى، ولكنها ما لبثت أن التحقت بذات الصحيفة من
الفرقة الثالثة.. كنا نجوب العشوائيات، وبين سكان المقابر، ونتسلل لمؤسسات
رعاية الأحداث "الإصلاحية"، ومستشفيات القطاع العام معاً، نلتقي بأطفال
العراق المصابين بأسلحة الأمريكان، وجرحى انتفاضة الأقصى معاً.


تخرجنا
معاً.. عملنا معاً.. اختلفنا واتفقنا وبدأت أمواج الحياة تصدمنا شيئاً
فشيئاً بالحقائق معاً.. فنجري سريعاً لنتحصن بمنظومتنا الأخلاقية والسلوكية
التي فلسفناها معاً.. إلى أن أغلقت صحيفتنا.. وخلال ذلك عرت التجربة
وجوهاً وحقائق وضعت بصمتها القاسية في أنفسنا. وراحت رموز تتساقط.. وتعلمنا
أن البشر بشر.. بلا هالات أو قداسات.


وهنا دفن فينا شيء آخر.. الأمان..

نعم
الأمان في ظل إنسان تثق فيه الثقة المطلقة.. الأمان وأنت تشعر أنك ذلك
الطفل الصغير في كنف شخص كبير يطمئن إليه كل الاطمئنان ويسلم له قياده
تماماً.. الأمان الذي يجعلك تلقي العبء عن كاهلك وأنت على يقين أن هناك من
يحمله بكل جدارة.


مذاك.. شعرت بـ"غربة الغرباء".. وبمدى حاجتنا إلى "إصلاح المصلحين".. إنها الحقيقة التي ظلت تؤكدها الأيام والتجارب.

محرقة الأيام



منذ
كنت في المرحلة الابتدائية أعشق كتابة الخواطر التي تحلل ذاتي ومن حولي،
لم أتوقف عن هذا إلا منذ التحاقي بالجامعة وتعرفي بـ"ف".. فلقد انخرطت في
عمل دعوي يستنفد كل طاقة الحلم بداخلي ولا يدع مجالا إلا للفعل.. ربما لم
أعد لكتابة الخواطر سوى الآن.. يعني بعد أكثر من 14 عاما.


كنت
وأنا صغيرة أتأمل من حولي وأشعر بوطأة قدم الزمن الثقيلة عليهم.. كنت أدرك
تماما ثقلها، ولكنني لم أتوقع أبدا أن ألقي نفسي باختياري في محرقتها.


توقي
الشديد للمعرفة وطبيعة المهنة التي اختارها لي الله وعشقتها حتى صارت
جهادي وطريقي جعلني كالفراشة التي تنجذب للنور فتحترق بلهيبه.. فعلى قدر ما
تمر به من تجارب وتقترب من أشخاص يزيد عدد دورات مرورك تحت قدم الزمن..
ويالها من قدم!!.. قاسية الوطأة.. حارقة الأثر.. جعلتني أتيقن أن الصراط
ليس في الآخرة فقط.. بل في الدنيا كذلك.. والتوازن كلمته السحرية.. فصارت
الحياة كالسير على وتر مشدود دائما.. هو الفارق بين الحق والباطل.


وزادت
المساحات الرمادية.. وبدأت أشعر أنني وسط أمواج بحر هائج.. أرقب شاطئ
البداية الأول بحنين من يدرك استحالة العودة.. وأرنو إلى شاطئ النهاية بأمل
أني على موعد هناك مع أجمل وآخر الأحلام فتصفعني موجة هائجة من صروف
الحياة فيغيب عن نظري الشاطئان وتحيطني ظلمات بحر لجي ما تلبث أن تزول
لتبدأ الدورة من جديد.. وبين هذا وذاك أضرب بذراعيّ سعيا وراء أحلامي،
لكنني أخشى ألا أكون على الطريق الصحيح إلى الحلم الأخير، أو أن يحيد بي
الدرب وسط الأمواج فيعربد الأمل بداخلي قلقا.. ويضعف الساعدان تحت ضربات
سياط اليأس.. فأكاد أغرق.. ولكن الحلم ينتفض بداخلي من جديد ماردا ينتشلني
من غمار اليأس ودوامة الحياة فأحلق معه ثانية.. ويبقى الحلم يحييني.


ذاك الفارس



إنه
الحلم الذي ظللت العمر أخفيه عن أعين الناس حتى أقربهم إليّ.. وأفر من
حديثهم حوله.. الحلم الذي شيدت حصنه بداخلي فحصنني عبر هذه السنين وتلك
التجارب، وبقى فتيا شابا لا يشيخ.


هذا
الحلم كان شرارة البدء لهذا المقال، فقد كنت جالسة بجوار نافذة السيارة
كالعادة في طريق عودتي من القاهرة، أسمع نشيدا ما، تشابه مقطع به مع أنشودة
قديمة ارتبطت في داخلي بمشاعر معينة.. فما إن سمعت هذا المقطع حتى شعرت
بذات الشعور يداعب جوانحي.. وكأنني لازلت طالبة المرحلة الثانوية ابنة
السبعة عشر ربيعا.


في
هذه السن كنت قد بدأت أتناول ريشة أحلامي لأخط بها ملامح الفارس.. كان حقا
فارسا.. بطل بكل معنى الكلمة.. وللبطولة في دنياي صورة خاصة، صورة طود
شامخ أمام صروف الحياة ونكبات الدهر، جبين وضاء تتلألأ عليه قطرات الوضوء
لا ينحني لغير الله.. عينان ثابتتان لا يعرف الانكسار إليهما سبيلا، ينهزم
أمام نظارتهما القوية جبابرة الأرض وطغاتها.. عقل حكيم يستوعب الجميع..
وروح هادئة لا تبعثرها الأيام في دروب الحياة.. وكلمة طيبة يذوب في دفئها
جليد الفراق.. ونفس تواقة لا تعوق إرادتها حدود ولا سدود.. وقلب في نقاء
الطفولة وشجاعتها واندفاعها وإحساسها المبهور بالحياة.


ومع
كل ما أمر به أو أراه في الحياة أنسج خيطا جديدا في حلم يجمعني بفارسي،
وما أكثر ما رأيت ومررت.. كل قصة أسمعها أعيش بطولتها مع فارسي، وأعيد
صياغتها كما عشتها أنا بمشاعري في قصص قصيرة ظلت حبيسة درجي حتى اليوم.


كم
استهوتني قصص البطولة.. في المنح والمحن.. في الحياة في سبيل الله والموت
في سبيل الله.. رحت أنبش عن ملامح الإنسان خلف وجوه أبطالها ممن أنعم الله
عليّ بلقائهم، في مصر وغيرها.. أعيش تجاربهم الإنسانية.. أتوحد معها.. وفي
خيالي أحتل دور البطولة مع فارسي.. أبني دنيانا الخاصة وأنسج علاقتها وأخط
ملامحها، فتتفجر طاقة الحلم بداخلي وتسري في العروق، فأشعر أنني أتألق
سعادة وسموا فوق كل ضغوط الحياة التي تجذبني بحبالها إلى قفص الواقع.


الواقع
الذي يخاطبني به البعض متعجبين: هل أنت من رأيت وجربت ومر عليك كل أصناف
البشر؟ هل أنت من تدركين حقيقة الأقنعة وزيف القناعات الجاهزة مسبقا
والأحلام الواهية؟ هل أنت من تفتين الناس في شئون الحياة؟ أتتحدثين كفتاة
لازالت تجري خلف فارس الأحلام؟ الحياة أعقد من ذلك.. عيشي الواقع.


أحلام حرة



نعم..
أنا من رأيت وسمعت، وكلما رأيت وسمعت وعرفت واقتربت أدركت حقيقة الهوة
الشاسعة بين فارسي وبين أولئك المحيطين بي من الذين يراهم الناس صفوة البشر
وأصحاب الرسالة.. أدركت حقيقة الإنسان خلف المسميات والهالات والمناصب
والألقاب.


ونعم
وألف نعم، أنا من لازالت تتعلق بأهداب حلم ابنة السبعة عشر ربيعا الفتيّ،
لا أتصور أن تبعدني عنه السنون، أو أن يشيخ بين جنبيّ، اعتدت في حياتي أن
أتفاعل مع كل ما أفعل وأقول، فكيف لا أتفاعل بكل مشاعري مع هذا الحلم
الفريد في مساحته؟ كيف أقبل أن أحيا لمجرد الحياة وأطوي قلبي على ألمي
لأرضي الناس؟ كيف أحيا مع مسخ الحلم وأدفن حلمي بيدي؟.


فليقولوا
ما يقولون.. وليمر ألف عام لا 31 فقط، لكني لن أدفنه أبدا بيدي.. لازلت
أطلب فيه سعادتي بالصورة التي أريد، وكلي يقين أن بين الإبل المائة راحلة
بانتظاري، فإن لم يكن في هذه الحياة فهناك حيث موعدي مع حلمي الأخير على
الشاطئ الآخر.


لن
أدفن بعد اليوم أحلامي .. بل اليوم سأطلق سراحها .. ولأول مرة أبوح بها
وأتحدث عنها وعن شخوصها.. فلربما يولد حلمي من جديد فيكم، وتحيونه جميعا
على طريقتكم فيبقى حلمي حيا في أحلامكم.. ويُبقي الحلم على جذوة الأمل
متأججة في القلوب.

انتظر الردود لا تنسو نا بصالح الدعاء